هو رجلٌ ليس ككلِّ الرجال، ومع ذلك لا يختلف عنهم ذاك الاختلافَ الساحق… لم يكن يُميِّزه شيءٌ عظيم، لكنَّه كان يُميِّز الأشياء كلَّها، وكانت الأشياء كلها تكبر معه وتعظُم به! كان حفيًّا بأن يُرافَق، وجديرًا بأن يُوافَق على أيِّ أمر يقترحه أو يرتئيه؛ لأنَّه كان بكلِّ بساطة خليقًا بالموافقة!
لا تدركُ له وصفًا مُحدَّدًا حين تشرع بتعريفه؛ لذا نادرًا ما كانت تفكِّر في الحديث عنه… حين تريد الكتابة عنه، تهرُب الكلمات منها، وتأبى إلَّا أن تكون واقعًا مجسَّدًا ومُعاشًا، لا مُجرَّد كلماتٍ عابرةٍ فحسب تطفو دون أن تغوص…
ثمَّ إنَّها تعلم في خَلَدِها أنَّ الكلمات لن تسعها للتعبير عما تُكنُّه له في جوفها من مشاعرَ وأحاسيس وعواطف أوسع بكثير من أن يُحاط بها، أو أن يُعبَّر عنها بصفحةٍ واحدة أو ببضع صفحات… هو أوسعُ من هذا بكثير… هو عالمها!
لا تعلم بالتحديد ما هو السرُّ العجيب الذي شدَّها إليه واجتذبه لقلبها منذ الطفولة، منذ أن كانت تراه بضع مرَّاتٍ فقط صيفَ كل عام.
كان حينها في الحادية عشرة، يوم صارحها بحبِّه الطفولي الخجول المفعم بالبراءة والأحلام … يومها كتب رسالته السريعة تلك على ورقة من أوراق دفتره الصغير الذي لطالما كان يُرافقه، ثمَّ مزَّقها بسرعة… كانا يلعبان حينها على شُرفة منزلها الشاسعة كقلبيهما… وكانت تحبُّه، لكنها لم تكن لتعلنَ عن حبِّها له ولا لأيِّ إنسان، فالحبُّ عندها هالةٌ قدسيةٌ تُسقى دون أن تُروى؛ لأنَّها إذا رُويت جفَّت وحلَّ بها النسيان… هي هكذا عاطفةٌ حرَّةٌ رقراقةٌ حلوة، تنمو بصمتٍ ونقاء بذاتها ولذاتها، بعيدًا عن الكلمات والأصوات والمؤثِّرات الرسمية والشكلية.
كانت في عمقها تعي شعوره العميق ذاك حتى قبل أن يُصرِّح عنه، ويبوح به على الورق؛ حيث كانت تقرؤه في عينيه ورقَّته، وتحسُّه في حسِّه المرهف الراقي عند تعامُله معها…
كان جديرًا بأن يكون رفيق عمرها منذ الصغر، كيف لا؟ وهو ابن خالتها المفضَّل الذي شاركها كلَّ شيء؛ من العمر، إلى الأحلام، إلى أرجوحة الطفولة؟ كيف لا؟ وهي التي كانت تنتظر نسيم الغربة المرَّة أن يهبَّ ليحمله لها صيف كل عام قادمًا مع عائلته، ليُمضي معها ومع وباقي أبناء الخالات أسعد اللحظات، وأكثرها بهجةً ومرحًا وطفولة.
كانت لها معه أجمل الذكريات، وأكثرها براءةً وضحكًا وشقاوةً، لكنَّها لم تكن لتبُوحَ ولو لمرَّة، فهي هكذا تعرف عن حبِّها بالكتمان؛ لأنَّ الحبَّ عندها كمالٌ ينقُصُه البوحُ ويَذهَبُ به، تمامًا كما تنقُصُ الشكوى لذَّةَ الألم الفريد وتُذهِب هيبته.
تلك الغربة التي قضى فيها عمره كلَّه، كانت عدوتها اللدود، لكنها ما كانت تدري أنها هي نفسها التي ستصير رفيقتَها الدائمة، وأنيستها الثانية، التي ستُشاركها سُكناها مع رفيق العمر وأنيس الأحلام.
كلُّ ما فعلتْه حين قرأت رسالته الخاطفة الهاربة تلك أن تجاهلتها… تجاهلتها بكامل وعيها وبملْء إرادتها، كمالًا لا دلالًا، وترفُّعًا لا كِبرًا، واستحياءً لا غطرسةً… ابتعدت عنه من حينها مسافةً كافيةً؛ لتُخفي فيها ذاك الخجل الفاضح الذي صار يعتريها ويدبُّ في كيانها كلَّما جمعتهما الأيام في حديقة الجدَّة أو على شرفة اللعب والشغب… هو أيضًا كان خجولًا وبريئًا جدًّا، لكنه ما كان ليستسلمَ ويُسلِّم بحبِّه الطفولي البريء ذاك، وما كان ليعتبره مجرد محطة طفولية عابرة، بل كانت تلك العاطفة الجيَّاشةُ بالنسبة له هي تلك القوة المعجزة الخارقة التي تدفعه نحو النضج دفعًا، وتقودُه نحو عمر الرُّشْد بأسرع ما يمكن أن يكون.
لقد كبر الحبُّ فيه سنةً تلو سنة، وعامًا إثرَ عام… كان يأتيها محمَّلًا بالبسمات والأمل، وفي طيات نظراته الدافئة تلك، كان يُخبِّئ الكثير من الوعود الزاخرة التي ما كان لينطق بها أو يبوح؛ لأنه كبر الآن وما عاد طفلًا! ظلَّ يكتم حبَّه عنها، ويغضُّ نظراته الخجلى قدر ما استطاع، وظلَّت هي أيضًا تُخفي ذلك الحبَّ الطاهر الصامت الذي ما انفكَّ ينمو برفقٍ وتؤدة على سجيَّته، ويُسقى في قلبها بماء الذكريات وعبير الأمنيات.
ولأنَّه نشأ في طاعة الله، وتربَّى على يد شيخه ووالده وصديقه ومثله الأعلى؛ لذلك ما عرَفت نفسه الآثام قطُّ، ولا جنحت نفسه للميل عليها، ولا لسلوك أهون الطرق إليها… ولأنَّها نشأت في بيئةٍ محافظة، وترعرعت على حبِّ الدين وعشق المسجد وحلقات القرآن، فقد كان يرضيها فقط أن تراه وتستمع إليه في كلِّ زيارة عائلية يأتي بها محمَّلًا بالشرائط والنصائح الدينية التي كان يغدق بها عليها وعلى إخوتها صيف كل عام، إلى أن قرَّرت وأخواتها على إثرها ارتداء الحجاب.
لقد كانت هذه طريقته الوحيدة في التعبير عن الحبِّ والمودَّة، وهل من محبَّةٍ أكبر وأعمقَ من أن تُسهم في إصلاح من تحبُّ؟ وهل من صلاحٍ أعز وأَولى من صلاحِ الأحبَّة؟
مرَّت الأيام، وكبرت الأحلام وصارت حقيقة لا خيالًا، واجتمع الاثنان بأمر الله وتيسيره تحت سقف واحد، تحفُّه السكينة والمودَّة، والفرحة العارمة، والأحلام التي لا تموت، فهي أبدًا في تجدُّدٍ واستمرار وولادة دائمة.
ظلَّ قلبُه الحاني هو ملجأَها الهادئ الساحر الذي لا تسكُن إلَّا إليه، ولا تملُّ من البوح عليه، لا شيء تغيَّر سوى أنه صار في عينيها أكبر وأعظم، بعد أن خبرت خُلُقَه الزاكي المثاليَّ الذي لا بُقعة فيه ولا شوائب، لا أحقاد ولا ضغينة ولا حسد!
ما سمعت منه مرَّة واحدة كلمة بذيئة، أو عبارة تخدش الحياء أو الإحساس أو تمسُّ سطحه مسًّا… ما جرحها ولو مرة، وهو الرقيق المتفائل الباسم دومًا حتى في أصعب الظروف… ما سمعته يومًا يغتاب إنسانًا على وجه البسيطة، أو يشكو جُرحًا، أو يئنُّ لوجع… كان يبتلع جراحه بصمْت وإيمان وتسليم كامل، وينسى ويُسامح خذلان الأصدقاء دون أن يُعبِّر عنه، وهذا أكثر ما تحبُّه فيه!
ما خطر بباله ولو مرة أن يستغلَّ تعبها أو يحمِّلها ما لا طاقة لها به، فحتى حين فقد عمله، وظلَّ فترةً طويلة بلا مصدرٍ ثابت للرزق، فضَّل أن يعمل عملًا مؤقَّتًا شاقًّا بالساعات على أن يجعلها ساقيةً شقيَّةً يسترزق منها أو يروي بها جشعه كما يفعل الرجال الماديُّون الاتِّكاليُّون، وهي التي تمنَّت أن تكون له جداولَ وينابيعَ من المياه العذبة التي لا تنتهي؛ لأنه يستحقُّ هذا، ولا شيء يكافئه!
لا زال في عينيها وقلبها فارس الأحلام والعمر والطفولة التي لا تكبر، ولا زالت أمانيهما معًا تكبر يومًا بعد يوم، وتغدق على حياتهما بمزيد من النفحات الزاخرة بالغبطة والوفاء، المستظلة أبدًا بفيء الذكريات.
هي تعلم اليوم أنها تُحبُّه أكثر من أي يومٍ مضى؛ لأنه الوفي الذي ما خانها يومًا، ولا تخلَّى عنها أو خذلها كما فعل الجميع… يكفيها أنَّه ما برح يمثِّلُ أحرص إنسانٍ على رضا أمِّه، وأحبَّ قلبٍ لقرب أبيه، وهو الذي لطالما اتَّخذ من رضا الوالدين ذخيرةً وزادًا يُخفِّف بها عنه ما يُثقل كاهله من أعباء الطريق.
وحده هو الذي كان وسيظلُّ ويبقى سفينتها التي تُبحر بها نحو عالم أوسع وأطهر وأبهى… عالم مليء بالصدق والبراءة والصفاء… عالم لا يعرف عنه أحدٌ سواهما، فهو عالمٌ غير قابل للتعدُّد والزيادة والنقصان… هو عالم يحيا ويسمو أبدًا في ثباتٍ وبريق لا يخفت ولا يضمحلُّ، لا يخبو ولا يغيب؛ لأنه من عالم الروح يستقي استمرارَه وأبديَّته وجماله وجلاله وإشراقته…
وهي الموقنة أبدًا بأنَّه كان وما زال وسيبقى بقلبها وبروحها وبعقلها أحبَّ حقيقةٍ وأعزَّ ذكرى!
___________________________
بواسطة :نورا عبدالغني عيتاني
___________________________
رابط الموضوع:https://cutt.ly/YAcjbqc
Leave a Reply