موازين التربية اختلفت!

«الأم» لم تعد المسئوولة الأولى عن «انحراف البنت» أمام سيل الاختراقات التي تتعرض لها الأسرة من كل جهة

كانت الأم في السابق المتهم الأول في انحراف ابنتها السلوكي والأخلاقي، بل ان الفتاة حينما تكون غير سوية أخلاقيا فكثيرا ما يتم إلصاق تهمة الانحراف الأخلاقي إلى الأم بحجة أن الابنة صورة من أمها، فهي من تربيها وهي من ترافقها، وهي أيضا من تغذيها بأخلاقيات حتى تكبر وتصبح شابة، وحتى نكون عادلين ومنصفين يجب أن نعترف هنا بأن نسبة كبيرة من النساء اللواتي ربما عرفن بالانحراف الأخلاقي والسلوكي ينتجن ابنة تشابهن ذات الطريق من الانفلات السلوكي والشتات الفكري والتراجع الأخلاقي، ففي السابق وربما مازال لا تخطب الفتاة التي يعرف عن أمها بأنها غير سوية أخلاقيا، أو أن هناك ملاحظات على سلوكها خوفا أن تصبح الفتاة مثل أمها في سلوكياتها حتى إن لم يكن هناك أي ملاحظات على سلوكيات الفتاة، فهل مازالت الأم المتهم الأول في حال انحراف الفتاة السلوكي والأخلاقي.

يبدوا بأنه حان الوقت كي نعيد النظر في المثل الشائع الذي يقول “اقلب الجرة على فمها تصبح البنت لأمها” فلم تعد الأم المتهم الأول في حال انحراف ابنتها الأخلاقي، ففي الوقت الذي كانت فيه الأم تشكل المصدر الوحيد والمرجع لأفكار وأخلاقيات الفتاة، أصبحت الأم لا تحتل الصدارة في التربية فهناك من أصبح يربي الأبناء قبلها وربما يكون أكثر تأثيرا وإقناعا منها، وربما يكون الاحتواء والحب الأسري داعما كبيرا لتقييم سلوكيات الفتاة والحفاظ عليها، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة أن الفتاة يمكن لها ان تنحرف أخلاقيا في الوقت الذي تجلس الأم على سجادتها حتى تمارس عباداتها بإخلاص، ففي الوقت الذي يمكن لنا أن نحكم على الفتاة المنحرفة بأنها تأتي من مرجعية أم منحرفة أيضا، تظهر لنا فتاة تتمسك بأخلاقياتها القيمة في ظل وجود أم غير سوية أخلاقيا، فهل يحق لنا اليوم أن نرجع الابنة في استقامتها الاخلاقية إلى درجة استقامة الأم.

الحكم الجائر

أوضح د. صالح العقيل – المختص في علم الاجتماع والجريمة – بأن الاتهام للأم الذي يوجهه المجتمع إليها حينما تكون ابنتها غير مستقيمة اخلاقيا كان اتهاما شائعا في فترة زمنية ماضية، وقد يحمل صبغة الظلم للأم وهو يأتي من ثقافة أن الابنة تشابه امها وهو حكم جائر، مضيفا في السابق كانت الابنة جميع تصرفاتها من ايجابيات ومساوئ تسند إلى الأم وتربيتها، أما الآن فمن الظلم أن تسند جميع سلوكيات الابنة للأم، ففي هذا الوقت تغيرت الأمور كثيرا فهناك عوامل كثيرة تغير من الابنة ومهما كانت سلوكيات الأم، ومستوى الأسرة والحفاظ في البيت وما يصاحب ذلك من مؤثرات والسلوكيات الأخلاقيات إلا أن هناك عوامل أخرى تؤثر على تفكير وسلوك الفتاة، فالأبنة تنام في سريرها والعالم جميعا امامها من خلال الانترنت فمن الظلم اتهام الأم بسوء التربية أو أن الأم كانت تمارس مثل هذه السلوكيات، لأن الأم لا تشكل 50% من المؤثرات الموجودة من الاتصال المفتوح والانترنت والبرامج التي تسوق الأفكار المنحرفة والجريمة والانحلال الأخلاقي، فحينما تحاول الأم أن تأخذ الهاتف الخلوي الخاص بابنتها قبل الساعة العاشرة فذلك انجاز إذا استطاعت أن تطلب ذلك من ابنتها، فالحال تغير عن السابق فالأم لا تتجرأ أن تطلب ذلك من ابنتها، لأن الابنة هنا قد تتمرد وربما تعترض وتصبح هناك مشكلة، مشيرا إلى أنه متى ما خلق الوازع الرقابي لدى الفتاة وبأنه لا للانحراف ونعم للسلوك السلوي فإن ذلك بقدرة الله – سبحانه – عامل كبير لحفظ الفتاة من الانحراف، ولكن النظرة للأم بأنها من علمت ابنتها على الانحراف فتلك نظرة قديمة جاءت من أن الأم كانت المربي وكانت مرجعا لابنتها، وربما لا يكون ذلك الحكم صحيحا في تلك الفترة أو دقيقا ولكن كانت تلك النظرة متقبلة من الناس لأن مصدر الفتاة الوحيد هو امها، وأي انحراف للابنة يتم ارجاعه إلى الأم.

وأشار د. العقيل إلى أن البعد الاجتماعي له تأثير كبير في تأكيد نظرية أن الابنة تشابه الأم في السلوك وهو الذي لا يزال يضع الأم في موضع الاتهام، فربما الأم صالحة ويتم اتهامها بسلوكيات ابنتها المنحرفة، وفي المقابل نجد بأن هناك أمهات بسلوكيات غير سوية والأبنة لا تشابه الأم في ذلك السلوك.

خطر المؤثرات

ويرى د. عبدالعزيز القنصل – استاذ العقيدة في جامعة الملك خالد – بأنه لا أصل في الإسلام لإرجاع الانحراف الأخلاقي لدى الفتاة الى أمها وما يذهب إليه الناس من الاستدلال بقولهم “تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس” فهذه مقولة أخذت من حديث لعمر بن الخطاب وهو يخطب، وهو لا يتعلق بالسلوك إنما أراد فيها الأصالة والطيبة والنجابة وغيرها من الصفات، مشيرا إلى أن الابنة كثيرا ما تتأثر بأمها إلا أن هذه ليست قاعدة ولكن الأصل في ذلك أن سلوكيات الابنة والولد تعود إلى التربية التي تربى عليها، فهناك الكثير من الأمهات كافرات والبنات في غاية الصلاح وهناك أمهات مؤمنات صالحات وبناتهن في غاية السوء والانحراف الخلقي، وكذلك من الرجال فهناك من هو داعية إلى الله وابنه قد يكون منحلا ومدمن مخدرات والعكس صحيح ولذلك فإن الصلاح هنا لا يعتمد في المقام الأول على الأم أو الأب وإن كان دورهم أساسي، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء) فالأصل في التأثر هو البيت، مؤكدا بأن هناك الكثير من المؤثرات في الوقت الحالي والتي أصبحت أكثر خطورة من تأثير البيت والتي همشت دور البيت وهي التعليم والمدرسة ووسائل التقنية الحديثة والتي همشت دور الأب والأم، فالطفل أصبح يجد العالم كله بين يديه ودور والديه مهمشا، كما أن تأثير الأصحاب أصبح كبيرا فالصاحب ساحب فالأم والأب لهما دور كبير ولكن يجب أن لا نحملهما التبعات، فهناك عوامل كبيرة جدا هي من تؤثر على تنشئة هذا الطفل وإخراجه إلى المجتمع بحيث إما أن يكون عضوا فعالا للمجتمع، أو عضوا سيئا.

وأشار د. القنصل إلى أننا يجب أن نفرق بين نظرة الشارع ونظرة الشرع في ذلك فنظرة الشرع تذهب إلى أنه “كل نفس بما كسبت رهينة” فالإنسان لا يسأل عن ذنب غيره، ولا يسأل عن فعل غيره، فهناك الكثير من الآباء ليسوا على خلق ولهم ابناء في غاية الخلق ولكن للأسف نظرة المجتمع تختلف فهناك مثل شائع يقول “اقلب الجرة على فمها تصبح البنت لأمها”، فمن يأخذ الابنة بذنب أمها حينما تكون الأم غير سوية أخلاقيا بحجة أنها قد تصبح يوما ما مثلها فتلك نظرة ظالمة، وهذا كلام الجاهلية، كانت الابنة تقتل حينما ترتكب الأم خطيئة خوفا أن تصبح مثل أمها إذا ما كبرت، وهذا من التجني على ديننا، موضحا بأن ذلك لا يقلل من أهمية البيت ودوره في التربية ووجوب قيام الاسرة بدورها في التربية مع الابناء.

وألمح إلى أن هناك صعوبة في الحكم على الزواج من فتاة امها منحرفة اخلاقيا بأن هذا الزواج قد ينجح أو قد يفشل فذلك يعتمد على الحياة الزوجية بين هذين الزوجين فربما يكون الخطأ على الرجل، وربما يكون لانحراف الأم تأثير على ابنتها ولكنه ليس الأساس في دفع الابنة إلى ان تنحرف، بل ان هناك حالات كان لانحراف الام تأثير إيجابي في الابنة، فالفتاة مسؤولة عن سلوكياتها وأعمالها وليست عن سلوكيات أمها.

صمام الأمان

ويرى أحمد السعد – مختص اجتماعي – بأننا نقتبس حديثنا على مقولة “وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه” وهذه المقولة قد يكون لها دلالات قديمة وتكون غالبا مرتبطة بتربية الأبناء وتوجيههم فإذا صلح الاباء والأمهات واحسن في تربيتهم فقد صلح الأبناء والفتيات، وقد لا تكون قاعدة عامة ولكن قاعدة شاذة، مؤكدا بأن انحراف الفتاة لا يرتبط أو يعود إلى انحراف الأم وإن وجد مثل هذه الحالة فهي إنما من حالات نادرة لا تمثل الأغلبية والسبب في ارجاع انحراف بعض الفتيات إلى الأم كون الأم هي صمام الأمان وحافظ الأسرار في الأمور الأخلاقية والمرتبطة بالشرف فقد لا نجد حواجز بين الأم والفتيات مما يتيح المجال لتنوير الفتاة من قبل امها بفعل الصواب والابتعاد عن الأمور التي قد تسبب حوادث جسيمة ولا شك أن توجه أو فكر الأم له تأثير كبير على الفتيات ولكن لا يوجد في ارجاع سبب انحراف الفتاة إلى الأم سبب منطقي.

وأوضح بأن المجتمع دائما ما يلقي عاتق التربية والمسؤولية على الأبوين فعندما نجد انحرافا سواء للفتاة أو للابن نجد أن المجتمع يقوم بملامة والديه لأنهم لم يحسنوا تربيته، وربما نجد بالحقيقة أن الأبوين بذلا الغالي والنفيس لرعاية وتوجيه ابنائهم لكن نجد أن المجتمع هو المرآة الحقيقية التي تعكس لنا التصرفات التي قد تنتج من قبل الفتيات والابناء دون علم والديهم.

وأشار إلى أن المجتمع ازداد وعيه في الفترة الأخيرة نسبيا وأصبح يدرك بأن الأزمنة متغيرة ولن يستطيع الوالدان تربية ابنائهم على نمط معين ومحدد وأن ظروف الأزمنة تتغير بين فترة وأخرى، كما يجب على الوالدين الخضوع في بعض الأحيان إلى طلبات الابناء خوفا عليهم من الانحراف، مبينا بأن المجتمع ينطلق من ظواهر الاشخاص واشكالهم وتصرفاتهم بغض النظر عن تربيتهم واخلاقياتهم وهي طبيعة المجتمعات ولكن قد تكون هناك مقولات أو اعراف سبقت هذا الجيل وهي ما أدت إلى ارجاع انحراف الفتاة إلى انحراف أمها وقد يكون صحيحا هذا الارجاع في حالات نادرة جدا.

المصدر

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.


*