إن ديننا القيم دين واقع، دين لا يتعامل مع الخيال، ولا يرسم المثاليات التي لا تتحقق، بل شرع لكل شيء ما يناسبه، يقوم المشاعر وينظمها، لكنه لا يكبتها ولا يصادرها.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
يحكي لنا الزمان قصة أَمَة مملوكة، وكم في ذلك الزمان من مماليك، لكن بريرة لها قصة، قصة الحرية، قصة الحب، قصة الإباء، قصة تثبت في تفاصيلها روعة هذا الدين، وسماحته، وترد على دعاة الحرية النسائية المطلقة، التي لا تخطم بخطام الشريعة، ولا توزن بميزان العدالة، وإنما هي دعوى الشيطان كساها من زخرف القول غروراً.
وملخص قصة بريرة أنها أرادت أن تتحرر من رق العبودية، وأن تنطلق في آفاق الحرية، تملك نفسها، وتملك قرارها، وترفل بقدرتها الكاملة لتقرير مصيرها، ورسم مستقبلها.
وهكذا كان، فقد اتفقت مع مالكيها من الأنصار على أن تكاتبهم، فاشترت نفسها بال تقسيط المريح، بتسع أواق من الفضة، تدفعها سنويا، في كل سنة أوقية.
ولما أبرمت الاتفاق، عمدت إلى نبع الحنان، وحصن الأمان، فقصدت بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وحدثت زوجه عائشة رضي الله عنها، وأخبرتها بحاجتها إلى أن تعينها، فدفعت عائشة رضي الله عنها ما اتفق عليه إلى مواليها ثم أعتقتها.
وها هي بريرة رضي الله عنها تتنفس عبير الحرية، وتستنشق عطرها، وتبدأ حياتها من جديد، بثوب جديد، ونفس جديدة.
فلما تأملت حالها رأت أنها زوجة لعبد مملوك، والإسلام يعطيها حرية اتخاذ القرار، فلها أن تبقي علاقتها الزوجية كما هي، على حالها السابق، ولها أن تنقض الرباط، وتحل الوثاق، فقررت بحسم وجزم أن تنهي حياتها الزوجية. وهكذا كان، لأنها لم تكن تحب زوجها، ولا تحمل في قلبها له مودة ولا رحمة.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: “إن زوج بريرة كان عبداً يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس: «يا عباس، ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثاً؟» (رواه البخاري).
فلما رأى مغيث إصرار بريرة على صده، وأنها عازمة على تركه، استشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم، فشفع له عندها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو راجعته، فإنه زوجك وأبو ولدك»، قالت: “يا رسول الله، تأمرني؟”، قال: «إنما أنا أشفع»، قالت: “لا حاجة لي فيه”.
وفي هذه القصة فوائد جمة، فقهية ودعوية، نستل منها ما يفيدنا في حالنا، وواقعنا، ومن ذلك أن نبينا صلى الله عليه وسلم تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثاً! تعجب وهو يرى حبا يقابل ببغض، فلم يكن حباً متبادلاً، فلم ينكر، ولم يشدد، بل أفسح للقلوب أن تعبر عما في جوفها، ولم يعنف أحداً منهما، لأن الإسلام جاء بها بيضاء نقية، واقعية، تتلمس العواطف وتعرف قدرها، ولم يأت ليكبت أحاسيس الناس، ولا ليضيق عليهم في التعبير عنها.
بل كم عبر هو عنها بأبي هو وأمي، لما سئل: “من أحب الناس إليك”، قال: «عائشة»، قيل: “من الرجال؟”، قال: «أبوها» (صحيح الترمذي [3890]).
إن ديننا القيم دين واقع، دين لا يتعامل مع الخيال، ولا يرسم المثاليات التي لا تتحقق، بل شرع لكل شيء ما يناسبه، يقوم المشاعر وينظمها، لكنه لا يكبتها ولا يصادرها.
فلا حرج على مسلم في أن يهوى امرأة مسلمة وأن يحبها، ظهر هذا أو خفي، لا إثم عليه في ذلك، وإن أفرط، ما لم يأت محرماً، ولم يغش إثماً.
وفي القصة أن من أعظم مصائب الحب أن يكون من طرف واحد، فيحب أحد الشخصين الآخر، والآخر يبغضه. وإن كان ذلك هو الأكثر الأغلب، ومن ثم وقع التعجب؛ لأنه على خلاف المعتاد.
فديننا يقر الحب، وينشر الحب، لكنه الحب العفيف، الطاهر، ليس حباً يقود إلى الرذيلة، ويهتك ستر الفضيلة.
وفي القصة رائعة من روائع الحبيب صلى الله عليه وسلم، ودلالة واضحة على أنه حقيق بوصف الله له: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة من الآية:128]، ودليل على عظيم خلقه، فإن عبداً مملوكاً لا يتوانى أن يطلب شفاعته، في قضية أسرية لا تمس الأمة في ثوابتها، وليس لها صلة في أمورها العظام، ومع كل هذا يستشفع العبد بالحبيب صلى الله عليه وسلم، ويشفع بأبي هو وأمي، لا يتكبر، ولا يتعالى، بل يكلم المشفوع عنده بألطف العبارات، ويذكرها لا آمراً، ولا زاجراً، ولا مستعلياً، ولا متسلطاً.
وكم في هذه الشفاعة النبوية لدعاة وعلماء الأمة أن يتواضعوا للناس، وينظروا في حاجاتهم، ويشفعوا لهم عند السلطان وغيره، في قضاء ديونهم، وإصلاح ذات بينهم، وفي جميع أمورهم، ليؤجروا، وليتأسوا بمورثهم العلم، ميراث النبوة.
ثم لك أن تتصور مدى اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بمغيث وزوجه، فإن فعلت فإنك حتما ستعجز أن تتصور كيف يكون اهتمامه صلى الله عليه وسلم بأمور هي أهم وأعظم من بريرة وزوجها! فسبحان من بعثه رحمة للعالمين. وهكذا دين الحق ، الذي يوازن الأمور ويعطي كل ذي حق حقه.
لقد استوقفني كثيرا منظره صلى الله عليه وسلم، وهو من هو، بأبي هو وأمي، لا يتوانى في الشفاعة عند بريرة، وهي التي لم يجف عرقها بعد من ربقة العبودية، يستعطفها على زوجها، فتسأله بقوة وثبات، تأمرني؟ لأنها تعلم يقينا أن لو كان صلى الله عليه وسلم يأمرها فلا تملك إلا أن تسمع وتطيع، فقد تقرر في ذهنها، ورسخ في قلبها: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة، حراً كان أو عبداً، سيداً كان أو عامياً، ملكاً كان أم من الرعايا، ما كان لهم إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. فلهذا سألت: تأمرني؟ فلما علمت منه صلى الله عليه وسلم أنه لا يأمرها، وإنما هو شافع، قررت، وصرحت بأنها لا تقبل تلك الشفاعة، وتردها بكامل اختيارها، ونقاء قرارها، واتساع حريتها، واطمئنانها إلى أنها لن ترغم، ولن تعنف، ولن تحاصر بإرهاب فكري، أو اجتماعي، إذا ما اتخذت قرارا ينافي رغبة الشافع، صلى الله عليه وسلم.
سبحان الله، هل تتخيل نفسك وأنت تشفع لدى من تظنه وضيعاً، وتحسبه ضعيفاً، وهو لم يقض ما تعاقد من أجله إلا بمعونة من أهل بيتك، وبقرار منك، وبنظام أنت رسخت قواعده، وشرعت بنوده، ثم تواجه بالرفض، فلا تقبل لك شفاعة، ولا ينظر إلى قيمتك، ومكانتك، ومركزك، وهيبتك، فما عسى أن يحمل قلبك من غضب، وما عساك تبحث في نفسك عن وسائل يمكن أن تستخدمها لتعيد كرامتك التي أهدرها رفضه شفاعتك.
لم يكن منظور الحبيب صلى الله عليه وسلم لها كما ننظر إليها، كانت نظرته أرق، وأوسع، وأشمل، إنما أنا أشفع. لم تعاقب بريرة، ولم تنبذ، ومضى الأمر كما أرادت، ولم يجبرها على أن تعود إلى زوج رفضته لأنها لا تحبه.
دروس متداخلة، في أعماق النفس، التي تشرع الأنظمة ثم لا تخضع لها، ولأناس يتشدقون بأقوال لا يستطيعون أن يطبقوها واقعا في حياتهم، فيبخلون بجاههم لأنهم يخشون أن لا يقام لشفاعتهم وزن.
ودرس لأناس يظنون أن حرية المرأة إنما هي في أن تخلع عن جسدها الثياب، وأن ترمي عن رأسها الحجاب، يرون حريتها أن تعمل لتكسب، وأن تزاحم لتتعب، يرون حريتها أن يتمتعوا بها، وأن ينالوا منها ما لا يرضاه إلا شيطان مريد.
ثم هم يغفلون، أو يتغافلون عن حريتها في أن يكون قراراها بيدها، في أن تختار زوجها، وأن لا ترغم على أن تعيش مع من لا تحب، فتساق سوق الشاة إلى مذبحها، وإلى أقوام حرموها حقها في ميراث فرضه الله لها، ومنعوها من أن تملك مالها، وأن تتربع على عرش مملكتها حرة أبية، فمن ناظر إليها نظرة شهوة واستمتاع، ومن ناظر إليها نظرة تنقص، كأنها سقط متاع!
فلله درك من إمام هدى، جئت بأنصع بيان، لم تتله بلسانك، بل صغته بأوضح برهان، صغته بنفسك الأبية، تطبيقاً، واقعياً، نلمسه فنحسه دفئا يرطب الأكباد، وأساساً يبني عليه من أراد أن يبني صروح الأمجاد.
لقد بنيت لنا بسيرتك العطرة شخصية المسلم المتكاملة، الواثقة، لا تقزم، ولا تحجم، تعلم أن عليها واجبات فتؤديها، وأن لها حقوقاً لا تفرط فيها، هذه الشخصية المسلمة رسمتها لنا بريرة، إحدى خريجات مدرسة الأجيال، في لوحة رائعة الجمال، لوحة واقعية، ليست من وحي الخيال.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين.
Leave a Reply