الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، وعلى من اتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فمِن أشد الابتلاءات التي قد يتعرض لها المسلم، ومن الأمور التي لا تُعوَّض: فِقدانُ المرأة الصالحة، التي كان إن نظر إليها سرَّته، وإنْ أمَرَها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله.
والله – سبحانه وتعالى – قد قضى على عباده بالموت، وَأَمْرُ الله نافذ لا محالة، فلا رادَّ لقضائه، قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]، وقال تعالى: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 88]، وقال تعالى: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27].
ومصيبة موت الزوجة قد شاء الله – سبحانه وتعالى – أن تحدث، قال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [التغابن: 11]، فالذي قدَّر المصيبة هو الله الذي خلق، والذي خلق هو الذي له الخلق والأمر، قال تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، والخالق له أن يفعل في خلقه ما يشاء، قال تعالى: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، فلا بُدَّ أن نرضى بقضائه، ونصبر على بلائه، ونحتسب، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا.
وإذا صبرنا على أقدار الله المؤلمة، فهنيئًا لنا بمعية الله، وصلوات الله علينا ورحمته ومحبته لنا، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]، وقال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 – 157]، وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146].
وقال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ثم قال بعد ذلك: ﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11]؛ أي: إنه ما مِن إنسان أصابته مصيبة، فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب ولم يتسخط ولم يعترض على قضاء الله وقدره، إلا جازاه الله بهداية قلبه، وهدايةُ القلب أصل كل سعادة وخير في الدنيا والآخرة، وقد يُخْلِفُ الله عليه في الدنيا ما كان أخذه، أو خيرًا منه.
عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((عَجَبًا لِأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ))[1]، فصبر الإنسان على ابتلاء الله له خيرٌ له من السخط والاعتراض على قضاء الله عز وجل.
والحاصل ممَّا سبق أن المسلم عليه أن يتقبل مصيبة موت زوجته بالتسليم لقضاء الله وقدره، والرضا بما قدَّره الله، وإن كان القلب يحزن والعين تدمع في مثل هذه الأمور فلا يقول إلا ما يُرضي الله، أما أن يقابل الإنسان هذه المصيبة باليأس وكره الحياة وتمنِّي الموت، وأن الموت والحياة سواء، والتقصير في الطاعات والواجبات، وضعف الهمة، فهذا لا ينبغي لمسلم أن يفعله.
وينبغي للمسلم أن يقابل المصيبة بالرضا والتسليم، وليتذكر أنه يحيا ويعيش من أجل غاية سامية، هي عبادة الله سبحانه وتعالى؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]؛ أي: لم يخلقهما للَّهو، ولا للَّعب؛ وإنما خلقهما ليعبدوه بالإذعان له والتسليم لأمره ونهيه[2].
وهذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدْعون إليها، وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه، والإقبال عليه، والإعراض عمَّا سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلَّفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم[3].
والمؤمن القوي تزيده المصائب قوة على قوته، ولا يجعل لليأس سبيلًا إلى نفسه، بل يحسن الظن بالله، ويعلم أنه ما قدَّر له إلا الله، وليتعظ من موت زوجته دون نذير – إذ الموت يأتي بغتة – بأن يكثر من الأعمال التي يُحب أن يلقى الله بها، فتزداد طاعته، وتزداد عبادته، ويزداد نشاطًا في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وهذه الحياة ما هي إلا مزرعة للآخرة، فلا بُدَّ أن نستغلها خيرَ استغلال بزيادة الأعمال الصالحة قدر الإمكان، لا أن نتمنى الموت الذي فيه انقطاع الرجاء من زيادة الأعمال الصالحة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لاَ يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ المَوْتَ؛ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ))[4]، وفي رواية: ((لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ؛ إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمُرُهُ إِلَّا خَيْرًا))[5].
وطول أجل مَنْ حَسُنَ عمله خيرٌ له من الموت، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: ((مَنْ طَالَ عُمُرُه، وَحَسُنَ عَمَلُه))[6]، فإذا كنا نحيا لعبادة الله ونشْر دين الله ونَفْعِ الإسلام والمسلمين، فهذه هي الحياة التي يحبها الله، ونحب أن نلقى الله عليها.
وينبغي للمسلم أن يتذكر أكبر مصيبة في تاريخ الأمة الإسلامية عندما مات النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يُحبونه أكثر من أنفسهم وأزواجهم وأولادهم، وعلى الرغم من ذلك ما دَبَّ اليأسُ في قلوب الصحابة، وما نقموا الحياة، وما تمنوا الموت، بل ازدادوا في فعل الخير ونشر الدين، وهكذا يجب أن نكون.
وأخيرًا أقول لمن أُصيب بمصيبة موت زوجته: اعمل – يا أخي – الخيرَ، واجتهد في العمل، ولا تتمنَّ الموت، ولا تُمَكِّنِ اليأس من قلبك، فهذا من عمل الشيطان، وَلْتَزْدَدْ هِمَّتُكَ في العبادة ونشر الدين والعمل النافع؛ فالله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بواسطة : الدكتور ربيع أحمد .