خلَقَك ربٌّ رحيمٌ بك، مُشفِق عليك، وجعَلَك لا تَسكُن إلاَّ لزوجةٍ من لحمك ودمك، جمَّلَها لك، وأبدَعَ صُنعَها من أجلك، ووعَدَك بأنْ يُغنِيَك إنْ أنت تزوَّجت بها، فماذا تنتظر؟!
أتنتَظِر الوظيفة والمال؟
قد جاءَك الغِنَى فأبشِر، وقد وُعِدت بالمال فشَمِّر؛ قال – تعالى -: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النور: 32]، والله ما بعد هذه الآية من عذر، وما بعد هذا الوعد من شكٍّ، فهو وعد مَن؟ وذُكر في كتاب مَن؟ وبلَّغَه لك مَن؟
إنَّ الوعدَ وعدُ الله، والكتابَ كتابُ الله، والرسول رسولُ الله، والخلق عِيالُ الله، وأنت في ملك الله، والخزائن كلها بيد الله، والكريم هو الله، والمعطي هو الله، فلا إله إلاَّ الله، والله لا يُخلِف الميعاد؛ ﴿ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [المؤمنون: 88]، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37]، ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40]، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [آل عمران: 9].
مَن يَخاف الفقر بعد هذا الوَعد؟ ومَن يخشى الفاقَةَ وقد تكلَّم ربُّنا من فوق سبع سماوات؟ ومَن ذا الذي يُطالِب الملك بالعَطاء قبل الإنجاز؟
قال العارف بربِّه، الحبيب إلى نبيِّه، الصِّدِّيق أبو الصِّدِّيقة، الخليفة الراشد، والصحابي الماجد، أبو بكر – رضي الله عنه – عند هذه الآية: “نفذوا ما أمرَكُم الله به من الزواج يُنجِز لكم ما وعدكم من الغِنَى”.
إنها لَوَقاحةٌ أي وقاحة أنْ يعدك ملك الملوك إنْ أنت فعلتَ لأعطينَّك، وإنْ أنت تزوَّجت لأغنينَّك، ثم تقول: لا، حتى تُعطِيني وأفعل، وحتى تُغنِيني وأتزوَّج! ولو قلتَها لرجلٍ مُحتَرمٍ لعابَكَ الناسُ، ولقالوا: كيف تتَّهِم هذا الرجل الغني ذا السُّمعة الطيِّبة؟ فما عهدنا عليه إلاَّ أنَّه يُوفي بوعده، بل ويزيد على ذلك، وإن عدم تنفيذك ما طلب، تخوُّفًا من عدم إيفائه بما وعَد – لَاتِّهامٌ له في وعده، وتنقيصٌ من منزلته ومكانته.
أيَأمُرك بالشيء تفعَله، ويعدك بالغِنَى تنالُه، فيكون مُخلِفًا لوعده، ناكثًا لعهده، فيحرمك وقد أنجزت ما أمر، ويمنعك وقد أدَّيتَ ما عليك ولم تقصر؟! أتُنقِصه الأسباب أم خلتْ خزائنه؟! أتُعجِزه الحِيَل؟ أم ضاقتْ وسائله؟! أيعصيه الكون أم لا تمضي إرادته؟! أيقول: كن فيُقال: لا، أم يمتنع منه شيء – جلَّ وعلا؟! كلاَّ، وألف كلاَّ!
بل هي عقيدتك الضعيفة، وأسبابك الواهية، ومنطقك المحدود، ونظرك الضعيف، وأمَدُك القصير، وأفُقُك المُغلَق، وجهلُك برَبِّك العظيم الذي خلَقَك، وبالرزق وعَدَك، فشقَّ سمعَك وبصرَك، وبالعقل أيَّدَك، ففهَّمك وعلَّمك، وقد كنتَ من قبلُ نسيًا منسيًّا.
إنَّ مَن رزقك في الحشا، وأجرى لك الألبان طازجة وأنت أضعف من رشا، لا ترفُض شيئًا ولا تَشا، ولا تعرف مَن أتاك ولا مَن مَشا، لا تُحسِن إلاَّ البُكا، ولا تجيد إلاَّ المص، إنَّ مَن رزقك في تلك الحال لهو القادر على أنْ يَرزُقك رجلاً، كبيرًا عاقلاً، مميزًا حريصًا، جادًّا ساعيًا، تُطالِبه بوعد، وتتوسَّل إليه بعهد، تقول: يا رب، قد تزوَّجتُ أبغي العَفاف، وقد وعدتني بالغِنَى، فأنَّى يرد طلبك وهو الكريم؟ وأنَّى يخلف وعدَه وهو الذي لا يُخلِف المِيعاد؟ وماذا يُنقِصه إنْ هو أعطاك ما سألتَ، وأنجز لك ما وعَدَك به على لسان نبيِّك – عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم – إذ يقول: ((ثلاثٌ حقٌّ على الله عونُهم…))، وذكر منهم: ((الناكِح يُريد العفاف))؟
والله لا يَبقَى بعد هذا الوَعْدِ إلاَّ رجُلان: رجلٌ ضعيفٌ عاجزٌ لم يجدْ مَن يُكرِمه بحليلته، أو يُزوِّجه بابنته، قد سُدَّت في وجهه الأبواب، وانقَطعتْ به الأسباب، فهو عن الزَّواج محجوب، وعند النِّساء ليس بمرغوب، فهو من الذين لا يجدون نِكاحًا، فيكبتون من أنفسهم جماحًا، مُنتَظِرين فرجَه القريب، المذكور في قوله – تعالى -: ﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النور: 33].
أو رجل امتَلأَ قلبُه بالأسباب، ونسي ربَّ الأرباب، يَخاف إنْ هو أقدَمَ ألاَّ يرزقه الله كفافًا يُغنِيه، وعفافًا يكفيه، يظنُّ أنَّ هذا الوعد غير متحقق، وأنَّ الأخذ به ضربٌ من المجازفة ممحق، لا يطمئنُّ للدينار حتى يقبضه في يده، ولا يَأنَس بالمال إنْ لم يحل في جيبه، فهو يَسأَل الموعود أولاً، ويريد المال مرتبًا مسلسلاً، حتى تطمئنَّ بذلك نفسه الضعيفة، وتذهب عنه مخاوِفُه السَّخِيفة، بعدَها يَنظُر عن يمينه وشماله، فيجد السنين قد أكَلتْ منه زهرةَ الشباب، وسرقت منه سِنَّ الهوى والحب والعِتاب، فلا يَبقَى فيه إلاَّ الجد والأمر والنهي والثواب والعِقاب، ويَدخُل الحياة الزوجيَّة دخولَ الكُهُول ذوي الألباب، لا دخول سكرات الشباب، ولو أنَّه صَدَق الوعد تصديقَ المؤمنين لعاش بما قسم الله له حياةً هانئة مطمئنَّة، يَأتِيه فيها رزقه رغَدًا من كلِّ مكان، لكن المحروم مَن حرَمَه الله، والمُوفَّق مَن هَداه الله.
ونوع آخَر لا أريد ذكرَه؛ كي أحفظ على المقال نبلَه، وأجنبه ذكرَ المنحلِّين من أراذل السفلة، العادُون الذين يبتغون وراءَ ذلك، المُعرِضون عن النِّكاح، الباحثون عن السِّفاح، والليالي المِلاح.
أمَّا قوله – صلَّى الله عليه وسلَّم – للشَّباب: ((يا مَعشَر الشَّباب، مَن استطاع منكم الباءَة فليتزوَّج، فإنَّه أغضُّ للبصر وأحصن للفَرْجِ، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنَّه لو وجاء))، فإنَّ الباءة هنا ليست المال، ولا يمكن أنْ تكون المال؛ لأنَّ المال لا يُطلَق عليه باءة، وإنما الباءة في اللغة العربيَّة النِّكاح، قال الإمام الزَّبيدي في “تاج العروس”: “والباءَةُ بالمدِّ والبَاءُ بحذف الهاء، والباهَة، بإِبدال الهمزة هاءً، والبَاهُ بالأَلف والهاء، فهذه أَربعُ لغاتٍ بمعنى: (النِّكَاح) لغةٌ في الباءَةِ، وإِنما سُمِّي به لأَنَّ الرجلَ يتبَوَّأ مِن أَهله؛ أَي: يَستمكِنُ منها كما يَتبوَّأُ من دارِه”.
ولو كانت الباءة المال لما زوَّج الرسولُ – صلى الله عليه وآله وسلم – ذلك الصحابيَّ الفقير الذي لا يملك إلاَّ ثوبه، إنْ أعطاه خطيبته بقي عُريانًا، بل لم يجد ولا خاتمًا من حديد، وهو في مجتمعهم ذلك فقير أشد ما يكون الفقر، فليس له زرع ولا ضرع، ولا بيضاء ولا صفراء، فأنكَحَه إيَّاها بما معه من القرآن، ولو كانت الباءة المال، لقال له المعلِّم والقدوة: اذهب فابحَث لك عن عملٍ، واجمَع المال ثم تزوَّج.
ولو كانت الباءة المال لما استَكثَر – صلى الله عليه وآله وسلم – من النِّساء، والنار لا تُوقَد في بيته شَهران كاملان، إنما أكلُهم التمر والماء، ويَأتِيه الضَّيف فيسأل نساءَه كلهنَّ، فلا يجد عندهنَّ ما يطعم به رجلاً واحدًا، وهو القُدوَة بأبي هو وأمي – صلوات الله عليه.
إنَّ الذي خلَق تلك المرأة الضعيفة هو الذي تعهَّد برزقك ورزقها بقوله: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ﴾ [هود: 6]، فما لك أنت والتدخُّل فيما لا يَعنِيك، والانشِغال بما ضمن لك ولها، فانظُر فيما أمَرَك الله به من أمر هذا الزواج فامتَثِله، واسعَ فيه، واترُك الباقي عليه، فهو أدرَى بك وبها، وأقدر عليكما وعلى آبائكما، وقد وعَدَك بأنْ يَرزُقك من حيث لا تحتَسِب، وكل ما حسبته من حِساباتٍ، وقدَّرته من تَقدِيرات، فإنَّ الرِّزق يأتي من حيث لم تحسب ولم تحتسب، فدَعْ حِساباتك جانبًا، واجعَلْ وجهتك واحدةً، وقصدَك واحدًا، وابتغِ ما عند الله بما شرع الله، تكن لسنَّة نبيِّك مُتَّبِعًا، وعلى درب المتَّقين سائرًا، فالتوكُّل أنْ تكون بما عند الله أوثق ممَّا في يدَيْك.
واعلَم أنِّي لو كنت أملك من الأمر شيئًا لزوَّجتكم جميعًا؛ لأنَّ ذلك هو النَّماء للاقتِصاد، والاستِقرار للبلاد، والتكثير للأفراد، والرقي بالقِيَم الاجتماعيَّة، والقطع لدابر الفَساد والمفسدين؛ قال – صلى الله عليه وآله وسلم – محذرًا أمَّته من ترك تزويج الصالحين رغبةً في المال عن الدين: ((إذا أتاكُم مَن ترضَوْن دينَه وخلُقَه فزوِّجوه، إلاَّ تفعَلُوا تكنْ فتنة في الأرض وفَساد عريض))، وقد شَهِدنا من هذا الفَساد العريض شيئًا غيرَ يسير، نسأَلُ الله أنْ يُصلِح البلادَ والعبادَ.
فأقدِم على خطوتك المباركة موقنًا بوعْد الله، مُستَحضِرًا عظَمَة الله، مُتفكرًا في قدرة الله، جازمًا بأنَّه لن يُخلِف وعدًا وعَدَك به في كتابه العظيم: ﴿ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 32].
Leave a Reply