بأيهما يبدأ الشباب: بالحب أم بالزواج؟

جلستْ تغمرها الفرحة، تحاول جمْعَ شتات فِكرِها، تحتار بأيِّ شيءٍ ستُجيب أباها الجالس أمامَها، كم كانت تتمنَّى هذه الجِلسةَ من قبلُ، يومَ أن يطلب منها معرفةَ رأيها فيمَن تقدَّم للزَّواجِ منها.

عدَّد لها أبوها محاسنَ وصفاتِ ذلك الشاب، وتحدَّث عن نشأته، وعن سُمعة أُسرتِه المشرِّفة، وختم كلامَه بإعادة أوصافِه وشكله المقبول، وحديثه العَذْب، وزاد تلميحًا عن مستقبله الواعد، وانتظرَ سماعَ همساتِ ابنته؛ بم ستُجيب عليه؟

لم تكنْ كلماتُ أبيها عن ذلك الشاب حاسمةً بالنِّسبة لها في تكوين رأيٍ نهائي عنه، فقد ساعدتْها في الحُكم على ما هو ظاهرٌ من ملامحَ ومادِّيات، إلاَّ أنَّه بقيَ شيءٌ بداخلها يتردَّد في القَبول بهذا الشاب؛ إنَّه قلبها! ذلك الذي لم يُجبْها بالجواب القاطع، فهو لم يتشبَّعْ بحبِّه بعد، فكلُّ الذي زار قلبَها هو ارتياحٌ وشيء من الإعجاب؛ ولكن لَم يَشغلْه الغرام، ولا أذابَه الشَّغف، ولا ملكتْه الصبابة، فهل تجيب بنعم أم لا؟ هل ترضـى بأن تـتزوَّج، ثم يأتي الحـبُّ فيما بعدُ، أم تنتظر حـتَّى يدقَّ الحبُّ بابَ قلبها؟

تأمَّلَ الأبُ نظراتِها الحائرةَ، تلمَّس بخبرته خيوطَ حيرتها، أشفق عليها من قلَّة خبرتها في الحياة، قدرَ ما هي فيه من صُعوبة أخْذ القرار، بدأ محاولاً بكلماته أن يأخذَ بفكرها لبرِّ الأمان كي ترسوَ على القرار السليم.

بدأ كلامَه معها من حيث انتهت بخيالها، وحديثها الصامت مع نفسها: بنيَّتي، تَعلمِين جيِّدًا أنَّ كثيرًا من البُيوت لا تُبنى على الحبِّ وحدَه، حقًّا إنَّ وجود الحبِّ ضروريٌّ كي تنموَ العاطفة بين الزوجين، ولكي تستمرَّ بهجةُ الحياة بينهما، إلاَّ أنَّ الحبَّ وحدَه لا يكفي، واعلمي بُنيَّتي، أنَّ الله – عزَّ وجلَّ – كما أوجد العاطفة في الإنسان أوجدَ أيضًا له العقل؛ ليتدبَّر به أمورَه، وكي يتفكَّرَ في شؤونه كي تُبنى قراراتُه على أساس سليم.

فالكثير من المخلوقات يكفيها العاطفةُ فقط – مثل الحيوانات – كي يتحقَّقَ لها التزاوج، ويكثر النَّسْل ، ثم يكتفون بهذا لإشباعِ احتياجاتهم وغرائزهم من المأكْل والمشرب والتكاثُر، ثم يُصبحون قطعانًا شـاردة، ولا يُبالـون بفراق بعضِهم البعض؛ لأنَّ هذه هي طبيـعة حيـاتهم، فلمْ يُكلَّفوا بإقامةِ الأسرة التي هي وحدةُ بناء المجتمع، ولم يُطالَبوا بإحداث نهضة، أو حضارة كما أُمِر الإنسان.

ولذا كان خيرُ زادٍ للإنسان وأجلُّ نِعم الله – عزَّ وجلَّ – عليه هو العقلَ، فكم تتطلَّب حياة الإنسان من قرارات مصيريَّة، مما يتوجب عليه أن يتعقَّل في أخذها، ومنها بُنيَّتي ما أنت مُقدِمةٌ عليه من اختيار الزَّوج الذي سيشاركك حاضرَكِ، وتَبنينَ معه مستقبلَك،وترتضينه أبًا لأولادك، ومن هنا كان الاعتمادُ على العاطفة وحدَها أمرًا خطيرًا؛ لأنَّه قد يُفوِّت عليك أمورًا شرعيَّة، ومصالحَ حياتيَّة، فيا تُرى مَن تختارين لكِ ولمستقبلك؟

حقًّا، إنَّ هناك زواجًا يُبنى على الحب، وأيضًا يوجد حبٌّ يُبنى على الزواج، ولكلٍّ منهما سلبياته ومحاسنه؛ ولكن اعلمي أنَّ الزواج هو الذي يَبني الحبَّ الحقيقي؛ لأنَّ الذي يُوجِد الحبَّ هو الاختيارُ السليم المبني على التوافُق الفِكريِّ، والانسجام الوجداني؛ لأنَّ زواج البشر له رسالةٌ تتجاوز بكثيرٍ مجرَّد دفْع غوائل الشَّهوة والرَّغبة في الإنجاب، رسالة تتناسب مع مكانةِ الإنسان على الأرض، والغرْض من وُجودِه.

إنَّ الزواج الذي يَسبقه الحبُّ قد يبدو أجملَ وأحبَّ للنفوس، لاَّ أنَّه قليلاً ما ينجو من الفشل؛ لأنَّه سَرعان ما تفتر لذَّة القرب بين الزوجين، وربَّما تتلاشى، ويَحُلُّ محلَّها التنافرُ مع بداية ظهور الاختلاف في الطباع، والتعامُل مع مجريات الحياة اليوميَّة، ومهما حاول الزَّوجان التغاضي عن سلبياتِ أنماط السُّلوك المختلفة التي لا بدَّ منها، سَرعان ما يتطلَّع كلٌّ منهما إلى احتياجات أُخرى؛ لأنَّ هذا هو سبيلُ منطق الشهوة التي جَمعتْ بينهما، فإذا أَشبعوا لذَّةً، تطلَّعوا لأخرى، وبِناءً على ذلك كان من المهمِّ أن يكون العقل طريقًا للقلْب، وليس القلْب طريقًا للعقل؛ لأنَّه كما يُقال: الحب أعمى.

ولِذا يَتغاضى المحبُّ عن الكثير من عيوب محبوبه، ليس موافقةً وإقرارًا لها؛ ولكنْ لأنَّ سحابة الحبِّ قد غَبِشَتْ صورةَ محبوبه الحقيقيَّة، فلم يَعُد يرى إلاَّ رتوشًا وتكلُّفًا في السلوك، والتي سرعان ما تتبدَّى على حقيقتها، ولكن بعد فوات الأوان.

أمَّا الزواج القائم على الاختيار السليم، المبني على الموازنة بين العقل والعاطفة، فهو الزواج الذي يُبنى فيه الحبُّ ويتغذَّى على المعاملة الحَسنة بين الزَّوجين، فالأُلْفة هي ثمرةُ العِشرة الطيِّبة والاحترام المتبادل، وكلُّ هذا لا يتحقَّق إلاَّ في الزواج الذي تَوافرَت له أركان استمراره من الاشتراك في الأهداف، والتقارُب في الفِـكر، والتوافق في السلـوك، والإحساس بالمسؤوليَّة؛ لأنَّ الزواج ليس عَلاقةً مؤقتة زائلة، ولكنَّه مستمرٌّ مدى حياة الزوجين، وعلى هذا يجب ألاَّ نُقرَّ بالحبِّ إلاَّ بين الزوجين.

ذلك الحبُّ النبيل الذي يسكن فيه الرَّجل إلى زوجته، ويغمرها بودِّه ورحمته، فهذا هو الحبُّ الذي يرضى عنه الله – عزَّ وجلَّ – كما أخبرنا عنه في كتابه الكريم في قوله تعالى: { وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].

وعلى هذا؛ فإنَّ من موجبات السَّكن، والمودة والرحمة بين الرجل والمرأة: التفكيرَ العَقلانيَّ السليم قبلَ الإقدام على إتمامِ الزِّيجة وتكوين الأسرة، والاختيار بهذا المنهج ما هو إلاَّ رؤيةٌ شاملة للنَّفس، والإنسان الآخر، وللحياة والمستقبل، ومثل هذا الاختيار هو الذي يُحقِّق حياةً زوجيَّة مكلَّلة بالنَّجاح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بواسطة : فاطمة محمود عليوة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.


*