المفتي: البعض ينظر إلى قضايا الطلاق على أنها مشكلة عويصة ولو عادوا إلى الأسباب لوجدوها أقل
رسمَ الإسلام للحياة الزوجية حدودها وأوضح منهجها وبين الطريق السليم الذي إذا سار عليه الزوجان فإن حياتهما تصبح حياة طيبة وسعيدة؛ فلقد حدد الإسلام العلاقة بين الزوجين ونظم سير حياتها؛ بدءًا من اختبار أحد الطرفين، مرورًا بالحياة بينهما إلى نهايتها، وقد تكون النهاية بموت أحدهما أو بالطلاق، وهذا وللأسف كثر في الآونة الأخيرة حتى وصلت الإحصائيات إلى 53% في مدينة الرياض وحدها، وفي جدة أكثر من 91%، وفي الدمام 32%، وفي القصيم 52%؛ كما بينتها إحصائيات محاكم الضمان الأخيرة.
كما تشكو محاكم الضمان من تسلسل الأرقام التي تتحرى دورها للبت في الطلاق، وهذا انعكس على المجتمع بكثرة العنوسة وعزوف الشباب والشابات عن الزواج؛ خوفًا من الفشل والطلاق. وحول ظاهرة الطلاق التي أخذت بالازدياد، استطلعنا رأي الشرع وعدد من المختصين في علم الاجتماع وعلم النفس.
ففي البداية، تحدث سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ وقال: إن أحكام الشرع منتظمة لا تتناقض؛ لأن الله يقول: “كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير”؛ فالحياة الزوجية السعيدة رسم لها الإسلام حدودها وأوضح منهجها وبين الطريق السليم لحياة زوجية سعيدة إذا سار عليها الزوجان، قال تعالى: “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف”، جزء من آية شمل الحياة الزوجية كلها، ويبين جل وعلا أن كلا الزوجين له على صاحبه حق؛ فللزوجة حق وعليها واجب، وللزوج حق وعليه واجب؛ ومتى قام كل منهما بالحق الواجب عليه نحو صاحبه فإن الحياة الزوجية ستكون حياة أنس ترفرف عليها أعلام السعادة.
وبيّن سماحته أن المشاكل تأتي وتضطرب الحياة الزوجية وتصاب بالنكد والبلاء عندما يحدث من أي منهما أمر مخالف للشرع. فالشرع أوجب على الرجل رعاية المرأة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم “استوصوا بالنساء خيرًا؛ فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن استمتعت بها استمتعت بك وفيها عوج”، وقال عليه السلام: “لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقًا رضي منها آخر”، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن المرأة لا تدوم للرجل على طبع واحد، بل لا بد من تفاوت في الطباع واختلاف وعدم انضباط في السلوك دائمًا؛ ولهذا الرجل أقوى تحملًا وأقوى عودًا؛ فهو يتحمل المشاكل بصبره وحلمه عندما يتذكر ضعف المرأة ونفاذ صبرها وقلة تحملها؛ فيرحم ضعفها؛ فيعاملها على قدر ما يعلم من حالها، وإن أراد أن يفرض عليها أمرًا غير ما تطيق فلن يستطيع لذلك سبيلًا.
كما جاءت السنة بحثّ المرأة على طاعة الزوج، وأن المرأة إذا ماتت وزوجها عنها راض فإن ذلك من أسباب رضا الله عنها، وحرّم عليها عصيانه وعدم طاعته.
وأوضح سماحته أن البعض من الناس ينظر إلى قضايا الطلاق بأنها مشكلة عويصة وأنها القضية المقلقة للمجتمع، ويهولون أمرها؛ لكنهم لو أعادوا النظر في الأسباب التي ينشأ عنها الطلاق في الغالب لوجدوا أن كثيرًا منها أسباب تافهة بإمكان الجميع تلافيها، لكن عدم الصبر أو نفاذ صبر أحد الزوجين يجعل الأمر معقدًا، ولو فكر فيه لما وجد الناس فيه مشكلة.
وقال ينظر البعض إلى الطلاق إلى أنه مشكلة اجتماعية، ودائمًا نسمع إحصاءات عن عدد حالات الطلاق في هذا العام والذي قبله، وكل هذه الأمور لو فكر الناس فيها لوجدوا أن بعضًا من الرجال ليسوا مؤهلين للرعاية، ليس عندهم تأهيل بأن يكونوا أهل رعاية للمنزل والمرأة! الرجل قاصر في نفسه: إما قصور في عقله أو قصور في قيامه بالواجب؛ فقد يكون عاقلًا ولكنه يفر من الالتزامات وتحمل المسؤوليات والقيام بالواجبات، لا يرى الزوجة إلا مجرد متعة في الفراش، وما سوى ذلك فليس عنده التزام برعاية المنزل والأسرة.
فهذا النوع من الناس عندما يقع الطلاق منهم فليس بمستحيل؛ لأنه لا يريد أن يكون دائمًا على مستوى المسؤولية. فبعض الرجال يكون عنده سلوك غير مستقيم ومنهج في حياته غير صحيح، تزوج ولكنه لم يغير ذلك السلوك ولم يبدل ذلك الوضع ولم يقوِّم ذلك الاعوجاج؛ أخذ على السهر الطويل في الليل، وربما فارق البيت ليوم أو ليومين لأنه يريد أن يسير على الطريق والأسلوب الذي كان عليه قبل الزواج، وما فكّر لأن الزواج نقلة له من فرد إلى شخص مسؤول وشفعًا بعدما كان وترًا.
هو يريد أن يعيش مع شلته التي كان يسهر معها ويقضي معظم ليله معها؛ فهو لا يريد زوجة تلزمه بالبقاء معها ومحادثتها وشعورها أنها تحت ظل زوج ذي رعاية للمسؤولية.
وشاب آخر لديه انحراف سلوكي لا يريد أن يقلع عنه، يريد أن تكون المرأة راضية بواقعه المريض صابرة على انحرافه؛ وهذا أمر لا يليق؛ لأن طبيعة المرأة الغيرة على زوجها، فإذا كان هذا الزوج عنده استعداد ولا يفكر أن هذه الزوجة التي من الله عليه بها أنها من نعم الله ليسكن إليها كما قال تعالى: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها”.
فالسير مع غير العفيفات ومع العاهرات والمومسات لا يحقق سكنًا للشخص ولا يعطيه السكن والنفس الطيبة؛ لأنهن عبارة عن مراحيض. فالزوجة أنس وقضاء للوطر وراحة للنفس، والذي لا يريد ذلك ويريد أن يبقى على ما هو عليه من ماض مرير سيئ هو الذي يرى ويتحدث عن الطلاق في الغالب.
كما أن الجهل من أقرباء الزوجة وأقرباء الزوج من أسباب الطلاق، ما يخلو بيت من مشاكل ولو قلت المشاكل، لكن أحيانًا المشاكل تكون في دائرة ضيقة محدودة فيقضى عليها في مهدها؛ ولكن عندما تخرج هذه المشاكل إلى خارج المنزل يتدخل أولياء المرأة فيزيدوا الطين بلة، وقد يتدخل أقرباء الزوج؛ فلو حلت هذه المشاكل بين الزوجين لكفى الناس الأمر ولصارت الحياة الزوجية منتظمة وخالية من المنغصات، ومن الأسباب كذلك الحماقة لدى البعض؛ فهو يجعل الطلاق ملجأ له في كل الأحوال ومفرًا له من كل المضايق؛ فهو لا يستطيع أن يربي الزوجة بموعظة وتذكير وهجر أو ضرب غير مبرح، بقصد التقويم؛ ولكن يلجأ إلى الطلاق ليهدم البيت من قواعده ويجتثه من جذوره، هذا كله من سوء التصرف وقلة الصبر ونفاذه.
موقف وسط
وقال سماحته إن موقف الإسلام من الطلاق موقف الوسط بين مللكم؛ فاليهود الطلاق عندهم مفتوح بابه على مصراعيه، لا يتقيد بأي شيء، والنصارى ضدهم: تبقى المرأة علًا في عنق الزوج لا يمكن أن يطلقها، والجاهلية في جاهليتهم كانت هذه سماتهم؛ يطلقون ويتزوجون، ويطلق الرجل المرأة الطلقة تلو الطلقة، وربما جمع عليها مئة طلقة، وكلما قاربت العدة استرجعها ثم طلق، والنصارى مذهبهم منع الطلاق مطلقًا بحق أو بغير حق؛ وجاءت الشريعة بكراهية الطلاق بلا سبب ومشروعيته عندنا.
وتحدث الدكتور عبدالله بن محمد المطرود، خطيب جامع الريس بالعريجاء، قائلًا إن الإسلام لم يجعل الطلاق حلًا إلا عندما تتخذ السبل والحلول كافة من الطرفين، وجعل الطلاق آخر حل للحياة الزوجية؛ مراعاة للطرفين ولما بينهما من حياة وأولاد، ثم لعل في ذلك تجديد للحياة وبداية سعيدة وتجربة تؤخذ منها العبر لكلا الطرفين، وليست نهاية الحياة، والغريب أن الاسلام جعل للزوج فرصتين: “الطلاق مرتان”، وأوصاه بتقوى الله وعدم نسيانه الفضل والخير: “فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان”، كما أوصاه بأن لا يستغل سلطته لظلم زوجته: “ولا تمسكوههن ضرارًا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه”؛ فالطلاق في الأصل مما يبغضه الله، وهو أبغض الحلال إلى الله؛ وإنما أباح منه ما يحتاج إليه الناس كما تباح المحرمات للحاجة؛ فلهذا حرمها الله بعد الطلقة الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره؛ عقوبة للزوج لينتهي عن الإكثار في الطلاق.
وقال المطرود: معلوم أن الطلاق فيه إباحة أو طلاق حرمه الله؛ فالذي أباحه الله ما وافق الكتاب والسنة، وهو أن يطلق زوجته طاهرة من غير جماع أو يطلقها حاملًا قد استبان حملها.
والطلاق المحرم أن يطلّق زوجته حائضًا أو يطلقها بعد الجماع، لا يدري اشتمل الرحم على ولد أم لا، وعلى الزوج أن يتقي الله في هذا كله. وأقول فيما ذكره ابن تيمية إن الناس تنازعوا في مسائل الطلاق بين من يقول قولًا فيه آصار وأغلال وقولًا فيه خداع واحتيال وقول فيه علم واعتدال، وهذا القول الأخير لا يخرج من مضمون سبيل المهاجرين والأنصار.
فعلى الزوج اتباع الكتاب والسنة عندما يجد الطلاق حلًا لمشكلته فلا يتعدى طلاق السنة (أن يطلقها طاهرة في غير جماع أو يطلقها حاملًا قد استبان حملها).
العلاج
وذكر المطرود عددًا من أسباب الطلاق التي توصل إلى هذه النهاية؛ من خلال سوء اختيار الزوجين لبعضهما وعدم التفاهم بين الزوجين والتوافق بينهما، والجهل في الحياة الزوجية وانتفاء المودة والرحمة، والإدمان على المخدرات والمسكرات التي تورث الفقر وتراكم الديون ونقص المادة، وعدم صبر الزوجة وتحملها، إضافة إلى تدخل بعض الأطراف من أسرة الزوجة أو الزوج؛ مما يؤدي إلى الطلاق عن طريق الخلاف بينهما. وغيرها من الأسباب التي قد يطول ذكرها.
وبين أن علاج هذه الظاهرة من خلال تقوى الله والإخلاص في هذه العلاقة، وعدم التعجل والتسرع في اختيار صاحبه، ومراعاة الشعور وممارسة الرحمة والتفاهم والود بينهما، ومعرفة حقوق كلا الزوجين على صاحبه بما تضمنه الكتاب والسنة، والتخلق بالأخلاق الحسنة الفاضلة والابتعاد عن كل ما يقطع أواصر استمرار هذه العلاقة، والصبر وعدم العجلة، والتحمل من الطرفين، حفظ كل من الطرفين صاحبه في غيابه وخلوته وعدم ترك المجال للآخرين للتدخل في حياتهما، أن لا يطلب أحدهما من الآخر أكثر مما يستطيع الآخر فعله، وتذكر قيمة المواصلة في الحياة الزوجية وخطورة الفشل وعواقبه.
وأردف المطرود قائلًا إن المتطلع إلى إحصائيات الطلاق في العالم العربي يجد خطرًا يداهم الأسر ويحطم المعنويات ويجعل المؤسسات ذات العلاقة بالأسرة في حيرة من أمرها. وفي نفس الوقت تسعى هذه المؤسسات، سواءً كانت حكومية أو خيرية، للبحث عن أسباب هذه المشكلة ومحاولة إيجاد الحلول لها عن تكثيف البحوث والدراسات والزيارات وهيئة حقوق الإنسان أكبر شاهد على كثرة المراسلات والاتصالات إليها من الأطراف ذات العلاقة بالطلاق.
وبين أن الحياة الزوجية القائمة على رضا الله والإخلاص وحفظ العرض والشرف، والعلم بالشرع المطهر، والحرص على القناعة والصبر، وأداء الحقوق والمعاشرة الحسنة والأمانة والأخلاق الفاضلة هي سلاح وحصن لحماية مملكة الزواج أمام الرياح والعواصف والأمواج العاتية؛ “ومن يتق الله يجعل له مخرجًا”.
بيئة متكاملة
وقالت المتخصصة الاجتماعية حنان خالد الزبن: نلاحظ ارتفاع معدلات الطلاق في مجتمعنا، خاصة في السنوات الأخيرة؛ الأمر الذي أدى إلى تفكك كثير من الأسر وتشتيت شملها؛ حيث يتربى الأطفال بعيدًا عن الجو الأسري المتكامل الذي ينشئهم تنشئة صحيحة في ظل حنان الأم والأب، وأشارت الزبن إلى مطالبتها بجيل يقوم بنهضة المجتمع وتقدمه؛ لكن كيف يحدث ذلك إن لم ينشأ الطفل في بيئة سليمة متكاملة الأركان.
وبينت الزبن أن أثر الطلاق لا يقف عند حدود الأطفال فحسب؛ بل يتعداها ليصل إلى الزوجة؛ حيث تعيش ضغطًا نفسيًا حادًا بعد الطلاق؛ لكونها هي المعيل الوحيد للأسرة، ولنظرة المجتمع لها بصفتها مطلقة. كما يؤثر على الرجل، شأنه شأن المرأة؛ حيث إنه قد يعاني من ضغوط نفسية أو أمراض جسدية؛ إلا أننا نجد أن أثره على الزوج لا يوازي أثره على المطلّقة؛ فقد يعزف عن الزواج لفترة من الزمن، لكن لا يؤثر عليه في كثير من الأحيان من ناحية نظرة المجتمع له؛ والدليل إقبال الكثير من الفتيات على الارتباط بشباب قد سبق لهم الزواج، بعكس المرأة.
وبينت هنا أهمية التوعية حول آثار الطلاق المترتبة على الزوجين والاطفال ككل، وذلك من خلال وسائل الإعلام أو أهالي الزوجين؛ حتى تستقر الحياة الزوجية.
المصدر
Leave a Reply