“الانتحار” كلمة لا تقتصر على الهدم المتعمد للبدن وإزهاق الروح عن قصد، بل إنها تمددت وانتشرت لتشمل كثير من القضايا الفكرية والنفسية والاجتماعية وحتى الطبية، فالانتحار الفكري يعني الشطط العقلي والشذوذ الفكري والميل للجحود والكفران، والانتحار النفسي يعني الاستسلام لأزماتنا النفسية والعاطفية حتى تحطم كل ما نملكه من إرادة، بل وحتى علماء الطب والتغذية يعنون بالانتحار وجوهًا أخرى كالإسراف في تناول الدهون المشبعة أو المخللات أو الأطعمة الحريفة وما أشبه ذلك.
بسم الله الرحمن الرحيم،
“الانتحار” كلمة لا تقتصر على الهدم المتعمد للبدن وإزهاق الروح عن قصد، بل إنها تمددت وانتشرت لتشمل كثير من القضايا الفكرية والنفسية والاجتماعية وحتى الطبية، فالانتحار الفكري يعني الشطط العقلي والشذوذ الفكري والميل للجحود والكفران، والانتحار النفسي يعني الاستسلام لأزماتنا النفسية والعاطفية حتى تحطم كل ما نملكه من إرادة، بل وحتى علماء الطب والتغذية يعنون بالانتحار وجوهًا أخرى كالإسراف في تناول الدهون المشبعة أو المخللات أو الأطعمة الحريفة وما أشبه ذلك.
وفي الحياة الزوجية كان لعبارة “الانتحار” نصيب ومدلول، فالانتحار الزوجي هو مجموعة من السلوكيات الزوجية السلبية الكفيلة بتدمير تلك العلاقة الحميمية والعاطفية بين الزوجين، وإصابتهما بنوع من الجفاء والجحود الذي قد يفضي -لا قدر الله تعالى- إلى الانفصال.
من أشهر مظاهر الانتحار الزوجي “كثرة التشكي”، خاصة من قبل الزوجات التي يكاد لا يرضيها شيء ولا يعجبها تصرف، وقد تكون الشكوى من قلة ذات يد الزوج أو من سلبيته أو من إهماله أو من غيرته، ورغم أن لكل منا عيوبه والشكوى منه واردة، لكن الأمر هنا يخرج عن حد الاعتدال المقترن بطلب الكمال الذي هو من المحال.
فكم هو مزعج للزوج أن لا يجد في حديث زوجته إلا المرارة الدائمة من تصرفاته، ولا حوار لها صباح مساء إلا عن سلبياته وسقطاته.. وكأنه كتلة سلبيات!، وكأنه لا يملأ عينها ولا يشغل وجدانها، وكأنها تريد أن توصل له رسالة بندمها على الاقتران بمثله، أو أنها كل شيء ولا شيء سواها، وبدونها تتعثر الأسرة ولا تخرج من كبواتها، ويزيد الطين بلة والعلاقة جفوة لو خرجت هذا الأمواج المتتابعة من الشكاوي خارج حدود الأسرة للأقارب والجيران وصديقات العمل، وكم هو قاس على مشاعر الزوج أن لا يقابل أحد من معارفه إلا ويجد منه الملامة وربما التوبيخ من تصرفاته مع زوجته التي فضحته عند القاصي والداني.
هذا في الوقت الذي يحتاج فيه الزوج إلى أن يشعر من زوجته بجدارته كزوج وأب وربان أسرة، فهذا من شأنه أن يشبع رجولته ويرضي قوامته التي فطره الله عليها.. إن الزوجة كثيرة الشكاية زوجة متسخطة على أقدار الله، تنشد الكمال فيمن حولها، رغم أنها في نفسها غير ذلك، ورحم الله أحد السلف حيث يقول: “يبصر أحدكم القذة في عين أخيه، ولا يبصر الجذع في عين نفسه”.
وما يقال على بعض الزوجات يقال أيضاً على بعض الأزواج، لكننا لو نظرنا بعين الإنصاف لحرصنا كل الحرص على مشاعر بعضنا البعض، وخير من الشكوى وتوصيف الأخطاء، النظر في كيفية معالجتها وفق طبيعة الطرف الآخر، فمن الناس من تجدي معه النصيحة، ومنهم من يحتاج لأن نتمثل نحن أمامه نموذجًا مثاليًا ليقتدي بنا، ومنهم من يحتاج لتدخل ذوي المكانة من الأقارب، ولله في خلقه شئون، أما أن يحملنا الضجر على أن نرى شريك العمر كله عيوب! وأنه لا تجدي معه حلول! فهذا انتحار بالبطيء لن نجني منه إلا الدمار.
إن الحياة الزوجية “شركة” لها طبيعة خاصة جدًا، فهي لا تحب أن تخرج أسرارها خارج سياجها الأسري إلا في أضيق الأمور والحدود، وكم هو مزعج بل ومؤلم لشريك العمر أن يرى سلبياته على الملأ، فما بالنا لو اقترنت بالتضخيم والمبالغة التي من شأنها أن توغر الصدور وتقتل المحبة.
والشركة الزوجية لا تحب أن يتعالى فيها أحد الشريكين على الآخر، وأن يرى أحدهما أنه كان بالإمكان أن يتزوج الأجمل أو الأغنى أو الأعلم أو الأقوى.. إنها قاصمة الظهر أن تعيش مع إنسان مجبر أن يعيش معك أو يتأفف من القرب منك أو يتحسر على لحظات الأنس التي يقضيها معك.. إن حواجز التعالي أو الكبر في الحياة الزوجية من شأنها أن تعلو وتعلو حتى تحجز تمامًا بين الطرفين فيصبح كل منهما لا يرى الآخر في حياته، ويعيش معه حالة من الطلاق الروحي مما يؤذن بوقع الطلاق الحقيقي بسبب أصغر شرارة وأقل هفوة. وفي الحديث الشريف: «لا يفرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً، إن كرِهَ منْها خُلقًا رضِيَ منْها آخرَ»، أو قال: «غيرَهُ» (صحيح مسلم [1469]).
والشركة الزوجية لا تحب المنافسة الضروس بين الشريكين، خاصة لو كانت الزوجة عاملة أو عالمة أو لها فضل ميزة على الزوج، فهذا التنافس من شأنه أن يقلب ساحة الأسرة إلى ساحة سجال ونقاش دائم، وترى هذا النوع من الزوجات لا تلبي لزوجها طلبًا -ولو صغر- إلا بعد طول مناقشة وجدال ولدد.
إن الحب الحقيقي يقوم على نكران الذات والتفاني في إسعاد الآخر، وحينها تجد سفينة الزوجية تسير سلسة سهلة، أما العناد وكثرة المحاورة والمخالفة فهي نذير خطر، أقل ما فيه أنه يشحن القلوب بالبغضاء، فما تلبث شرارة الفرقة أن تنفجر لأتفه الأسباب، فيصبح الناس يتعجبون ممن طلق زوجته لأنها لم تعد له طبق الحلوى الذي يفضله، أو لم تشتر له الأغراض التي طلبها، أو غيرها من الأمور البسيطة التي لا تستحق كارثة كالطلاق، لكن لو نظرنا بعين التأمل لوجدنا أنها مواقف بسيطة لكنها تخفي ورائها تراكمات ومشاحنات وسجالات وتناقضات وخلافات.
إن الحكماء يقولون: العافية كلها في التغافل، والمتغافل سيد قومه، وفي الحديث الشريف: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» (صحيح الترمذي [3895])، قال المناوي: “وكان -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس عشرة لهم حتى أنه كان يرسل بنات الأنصار لعائشة يلعبن معها، وكانت إذا وهبت شيئًا لا محذور فيه تابعها عليه، وإذا شربت شرب من موضع فمها، ويقبلها وهو صائم، وأراها الحبشة وهم يلعبون في المسجد وهي متكئة على منكبه، وسابقها في السفر مرتين فسبقها وسبقته ثم قال: «هذه بتلك» (صحيح أبي داود [2578])، وتدافعا في خروجهما من المنزل مرة، وفي الصحيح أن نساءه كن يراجعنه الحديث” (فيض القدير للمناوي).
والشركة الزوجية لا تحب المقارنة مع أطراف خارجية، وهذا من المروءة وحسن الخلق الذي أوصانا به النبي -صلى الله عليه وسلم-.. فإياك عزيزي الزوج أن تعقد مقارنة بين زوجتك وبين فتيات الإعلانات أو الممثلات على مرأى ومسمع منها، بل وفي قرارة نفسك تأدبًا مع الله الذي يعلم السر وأخفى، وإياك عزيزتي الزوجة أن تعقدي مقارنة بين زوجك وبين أحد الغرباء تمدحين على مسمع منه في الغريب صفات لا توجد في زوجك.. إنها قاصمة الظهر التي تستجلب ظلال الكآبة والوحشة على القفص الذهبي والعش الزوجي، وكم هو صعب على النفس أن تحس بالدونية، لكن المؤمن يرى أن الحياة جملة من الأرزاق فالصحة رزق والجمال رزق والعلم رزق والزوجة رزق والزوج رزق.. ومن رضي بما قسم الله له كان أغنى الناس.
والشركة الزوجية لا تحب أن يعشش فيها الشعور بالتقصير.. فحذار أن يشعر أحد الشريكين الآخر بأنه مقصر معه عاطفيًا أو وجدانيًا فهذا من شأنه أن يؤجج نار العناد ويزيد التقصير تقصيرًا قد يصل إلى حد الجحود والجفاء.. إن لغة الإطراء تفتح القلوب المغلقة، وتؤجج المشاعر النائمة، وتضفي على حياة الزوجين مسحة رومانسية دافئة، والكلمة الطيبة صدقة، وأولى الناس بالصدقة ذوو القربى، وما أجمل أن تقترن تلك الكلمات الندية بالهدية التي لها مفعول السحر، بل هي السحر الحلال الذي يؤثر القلوب ويلين القاسي ويقرب الجافي، وهي تعبير عملي على الاهتمام وتفقد مواطن راحة الشريك وسعادته وكفاها من صفات كفيلة بأن تزيل الغشاوة التي صنعتها السنون، والرتابة الزوجية التي زرعتها الأيام مع طول العشرة.
والشراكة الزوجية لا تحب التبذير ولا الإسراف المادي.. إن النفس إذا أحرزت رزقها اطمأنت، وكم من العثرات التي تعتري مسيرة الزوجين، فإذا خيمت على الأسرة ساعة العسرة وضاقت اليد عن تلبيه المتطلبات توتر المشاعر وبدأت الاتهامات والتلاومات، وانفتحت على الزوجين أبواب الاستدانة التي هي هم بالليل وذل بالنهار، كل هذا بفعل نظرتنا القاصرة في إدارة ميزانية الأسرة والسير بمبدأ “عيش اللحظة” وكأن الحياة تصفو دائمًا وتحلو على طول الطريق وهيهات هيهات.
إن الزوجة العاقلة هي من تحسب للأيام حسابها وتزن للأحداث بميزانها، وتدير أسرتها ماديًا بتعقل بلا إفراط ولا تفريط، حتى إذا ألقت الأيام بعسرها على زوجها، وجد زوجة تمد له يد العون مما ادخرته لهذه الخطوب.. حينها تحلو في عينه، وتجلو في نظره، ويزداد رصيد الحب في قلبه لأنها كانت نعم السند وخير المعين، والناس مواقف، وخير الأصحاب أنفعهم لصاحبه.
Leave a Reply