بسم الله أبدأ، وبه أستعين، وعليه أتّكل ..
لا أتذكر بالتحديد كم عدد المرات التي سئلتُ فيها هذا السؤال، في البيت وفي الجامعة وأثناء حوارات الصديقات والقريبات، لكنها مرّات كثيرة:
أيهما أفضل دينيّا: احتشام بلا حجاب أم حجاب بلا احتشام؟!
وقبل أن أطرح ما أريد قوله بشأن السؤال و جوابه، أودّ أولا أن أشير بشيء من الإيضاح إلى كل من جانبي السؤال وإلى من يجيبون عنه بأحد الخيارين ..
فأما الذين يقولون بتفضيل الاحتشام كسلوك متمثل في أخلاق المرأة عند مخالطتها للناس وفي حدودها أثناء التعامل مع الجنس الآخر على الحجاب – وهو شعيرة من شعائر الدين – كقطعة قماش تغطي الرأس ولا تمثل شيئا في باب المعاملة، فإنهم يرتكزون في هذا التفضيل على أهمية السلوك في حياة الأمم، وأن السلوك الجيّد هو الذي يرفع قيمة الفرد والمجتمع، وأن الدين – بلا شك – يريد رفعة الفرد والمجتمع و يحثّ على السلوك الحسن كما هو ذائع في قولهم “الدين المعاملة” (١) ، ومن ثمّ فلا يضرّ كثيرا إن قصّر الإنسان في جانب تعبدي ما ولكنه حافظ على أخلاقه وسلوكه، وإن الرجل يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال يجعلها الله هباء منثورا لأنه فضّل الشعائر على السلوكيات!
وأما الذين يقولون بتفضيل الحجاب (الشعيرة) على مفهوم الاحتشام المتقدم، فإنهم يرتكزون على أن الحجاب فريضة شرعية لكنه لا يتحكم في حرية المرأة بوجه من الوجوه، وهذا طبعا لأن الدين لا يتنافى مع الحرية، وأن الاحتشام المأمور به في الدين يتمثل في ارتداء الحجاب، وما سوى ذلك فهو معفوّ عنه، فالمرأة المسلمة حين ترتدي الحجاب فإن ذلك لا يعني أنها ستهجر زملاء الجامعة، ستظل تهاتفهم وتمازحهم وتتنزّه معهم ولكن بحجابها! .. فلا علاقة بين الحجاب وكل ما سبق، إذ إنها بارتدائها الحجاب قد أدّت ما طلبه الدين منها…
وهذه المنتقبة، لن يمنعها نقابها من التأمل في وسامة أحد (الإخوة الفضلاء).. – فما للنقاب ولهذا الفعل؟ هذا لا علاقة له بهذا، ثمّ إن نظرها مبنيّ على قول بعض الفقهاء بأن غض المرأة بصرَها مستحبّ فقط(٢)، فهي لم تفعل حراما!
وبالتأمل في السؤال المطروح وفي الجوابين المتقدمين عنه نجد أن الحديث ليس عن أفراد معيّنة، وإنما هو عن المبدأ ذاته (الحجاب وليس محجّبة بعينها، الاحتشام وليس حالة منه)، ومن ثمّ فالذي نناقشه هنا هو الفكرة التي انبنى عليها الفعل، و لسنا بصدد الحكم على مصائر الأشخاص، وما كان ينبغي لنا أن نفعل، فإن هذا بين العبد وربه، كما أنه قد يقع للأشخاص ما لا يصح القياس عليه، فإذا كانت بغيّ قد دخلت الجنة بسقاية كلب فإن هذا لا يعني أنه لا بأس بالبغاء إذا كنا سنسقي الكلاب، وإذا كان أول من تسعر بهم النار هم مجاهد وعالم وقاريء للقرآن فلا يمكن أن يقال أن الجهاد وطلب العلم وحفظ القرآن أمور لا تفيد صاحبها شيئا..
وربما يبدو هذا الكلام أوضح من أن يفصّل، وأنا كنت أحسبه كذلك، حتى رأيت زميلة لي تنافح عن مخرج سينمائي يخرج أفلاما في غاية القبح، وتستدل بأمور شبيهة، لذلك أردت أن أبيّن أني لا أتكلم عن أفضلية شخص، وكذا أن الحالات المعيّنة لا يمكن اعتبارها قواعد عامة..
أعود فأقول إن هذا السؤال ليس سؤالا عابرا من وجهة نظري ولكنه انعكاس لقناعة السائلـ/ة بأن شعائر الدين منفصلة عن الأخلاق أو عن قضايا السلوك عموما ، وأن علينا أن نجعلهما – الشعائر والسلوك – على كفتي ميزان ونطلب الترجيح ..
فهل يمكن أن نقيم تلك المفاضلة بميزان الدين؟!
الجواب : لا .
فإن الله تبارك وتعالى قد منّ على أمة الإسلام بدين كامل وشريعة متوافقة الأحكام متسقة المباني ، عجيبة التدرج حال التنزيل ، بديعة الاتصال بعد اكتمال الوحي ، ليس فيها فصل بين التعبد والسلوك ، بل نفس العبادات متعلقة بالمعاملات بوجه ما ، و كذا المعاملات لها سياق تعبديّ خاص، وما التفريق بين الشعيرة والسلوك في أحسن أحواله سوى غفلة عن ماهية الدين ، وإلا فإنها العلمنة في أوضح صورها ..
ومن ثم فإن السؤال يحوي قفزا حكميا ، إذ كان المفترض أن نسأل أولا : هل يمكن من منظور الدين أن نفصل بين الحجاب كشعيرة تعبّر عن التدين وبين الاحتشام كسلوك يعلي قيمة الفتاة ؟ ، ثم بعد ذلك نسأل أيهما أفضل ..
وإذا كان الحجاب والاحتشام – كمثال للتعبد والسلوك – متصلين اتصالا وثيقا هكذا ، فما العلاقة بينهما؟
بداية ؛ أودّ أن أشير إلى أن الترادف مستبعد هنا ، ومن ثَمّ فوصف المحجّبة بكمال الحشمة لمجرد حجابها = خطأ ، و وصف الكاشفة بانعدام الحشمة لمجرد كشفها = خطأ كذلك ، ولكنّ الصواب الذي يتراءى للمتأمل هو أن الحجاب جزء من الاحتشام ، فرضه الله تبارك وتعالى على نساء المسلمين محفوفا بأوامر أخرى كغضّ البصر و عدم الخضوع بالقول ومجانبة الخلوة غير الشرعية وغير ذلك ، ليسير الجميع في نفس السياق ، أعني سياق الاحتشام ..
ومن ثَمّ ، فوصف المرأة بأنها كاملة الاحتشام دونما حجاب أو لمجرد حجابها هو وقوع في مغالطة منطقية ، لأن الشيء لا يمكن أن يتمّ و بعضه مفقود ..
وعلى ذلك؛ فإن الجواب لصالح أحد الطرفين إنما هو تفريق بين أمور جمع الله بينها في سياق واحد ، وأمر بها جميعا لتحقيق مطلب مشترك ، فإن الأمر بالحجاب والأمر بغض البصر جاءا في آية واحدة ” وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ” مما يعني أن الأمرين لهما مقصد مشترك وأنهما لا ينفكّان ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر .
وهل يعني ذلك أن كل امرأة تقصّر في أحد الجانبين تكون مفرّقة بينهما التفريق المذكور؟
الجواب: لا ؛ فإننا لا نوجّه هذا النقد لمجرد فعل المرأة ذنبا من الذنوب، ولا نطالب المرأة أن تكون كاملة المعاني والأوصاف لا تخطيء أبدا ، فإن جميع الناس مذنبون ،وإننا مأمورون بالمجاهدة في جانبي التعبد والسلوك وإن قصّرنا في أحدهما أو فيهما جميعا، فالذنب مهما عظم لا يعظم عن رحمة الله ، وإن امرأة أصابت الفاحشة شهد لها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بالإيمان وأخبر أن توبتها لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم ، ولا يزال العبد يذنب ثم يتوب طول عمره ، ولا يزال الله يغفر ويعفو ويختم بالخير لمن يعلم في قلبه خيرا .. وهو المسئول أن يجنّبنا الفتن .
لكن المؤسف حقا – والذي من أجله أكتب – هو تحول تلك الذنوب إلى طبيعة سلوكية ، يعيشها الفرد المسلم بصورة مستمرة غير آسف عليها ، ليس إلفاً لها و حسب ، وإنما اعتقادا بصحّتها و رشدها وبأن من يُنكر وجودها على هذه الصورة موصوم بالتشدّد ، يريد أن يضيّق ما وسّعه الله!
وهذا ما نراه في النازعين نحو أحد الطرفين ..
فالذين ينزعون إلى السلوك يرون التهاون في الشعائر أمرا عاديا ، وطالما أن أخلاقهم حسنة فالباقي يسير ، وقد يدع الشاب منهم الجُمَع ويرفض نصيحة من يدعوه للصلاة اعتمادا على هذا المنطق، ولقد رأينا كثيرا من الفتيات لا يقبلن أن يذكّرهن أحد بفرضية الحجاب متعللات بأنهن لم يقصّرن كثيرا طالما أن الاحترام موجود ، و بمَ يفيد الحجاب و السيدة المحجّبة أو المنتقبة تتخذ حجابها أو نقابها ساترا لتخدع الناس وتسرق أموالهم؟ ، إنهم يرون من يدعوهم للتدين الظاهر شخصا متشددا ، ويسعون دوما نحو “الوسطية والتسامح” وغالبا ما يتحدثون عن التسامح إذا تعلّق الأمر بحقّ الله لا بحقوقهم!
والذين ينزعون نحو الحجاب ، ويختزلون معنى الاحتشام المطلوب دينيّا في ارتدائه ، فإن المحجّبة منهم قد لا تبالي أن تزاحم الرجال بلا حاجة و تتجاوز في مخالطتها لهم .. تضحك وسط الجموع بما يلفت أنظارهم، وتحرص على الظهور في نواديهم ، ثم تجعلهم محور حديثها مع الصديقات ..
قد يكون هؤلاء الرجال زملاء لها في الجامعة أو العمل أو جيرانا أو أقارب من غير المحارم أو أرقاما في قائمة أصدقاء الفيسبوك أو غيره من مواقع التواصل !
فالمحجّبة من هؤلاء تمازح زميلها بالساعات وتأخذ معه صور (السيلفي) ، وتمشي معه في الطرقات وتخضع له بالقول ، ولا تبالي بكل هذا لأنها قد أدّت حق الله وتحجّبَت!
وعلى مواقع التواصل، لا تبالي المسلمة الديّنة بالضحك مع هذا و ذاك وسط الرسائل والتعليقات ، بحجة أنها خلف شاشة لا يراها (الأخ) ولا تراه ، وهي في حقيقتها محجّبة ، وكل ذلك بما يرضي الله!
وإن هذا النوع من “المحجّبات” بله “المنتقبات” لا يعرف – إلا من رحم ربي – سوى نهج الردود (المفحمة!) إذا طُلب منها الانتهاء عن تلك الأفعال ، أليست أفضل من المتبرجة الكاشفة التي تثير الفتن ليلا ونهارا ؟
إنها ترى من ينهاها عن أفعالها تلك مطالبا لها بالخروج على بشريّتها بالسيف، ويدعوها إلى ملائكية زائفة لن تتحقق ..
إن هذين النموذجين وإن بدا بينهما التضاد ليسا في حقيقتهما سوى وجهين لعملة واحدة، إنهما لا يعبّران عن مجرد فعل الذنب ، فإن الله تعالى لما وصف عباده الصالحين قال : {والذين إذا ذكّروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا} ، وقال :{إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون}
وقال : {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم}
وهذا لا يفعله المنتمي لأحد الجانبين – غالبا – لأنهما لا يريان أن هناك ذنبا يستحق الإنابة والرجوع من الأساس!
إنه منهج في التفكير بالمقام الأول ، يسير فيه كلا النموذجين، وهو يدور بهم – من حيث يدرون أو لا يدرون – في إطار التفريق بين ما جمعه الله من العبادة والسلوك ، أو إلى علمنة التدين، وهو المقصود هنا بالنقد والردّ .
والله تعالى أعلم وأحكم وعليه قصد السبيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) شاعت هذه الجملة على أنها من قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وليست كذلك.
(٢) وهو النظر من غير ريبة ،اعتمادا على حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين في النظر إلى الحبشة ، وقد بوّب عليه البخاري رحمه الله في كتاب النكاح بقوله (باب نظر المرأة إلى الحبش وغيرهم من غير ريبة) ، وأما إذا كان النظر لشهوة فهو حرام باتفاق الفقهاء، كما بيّنه ابن حجر في فتح الباري/ انظر حديث رقم (٤٩٣٨)
Leave a Reply